سورة الأنعام - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ} تقريرٌ لما مر من أن على قلوبهم أكنةً مانعة من الفقه، وفي آذانهم وَقراً حاجزاً من السماع، وتحقيقٌ لكونهم بذلك من قبيل الموتى لا يُتصور منهم الإيمانُ البتةَ، والاستجابةُ الإجابةُ المقارنة للقَبول، أي إنما يَقبلُ دعوتَك إلى الإيمان الذين يسمعون ما يلقى إليهم سماعَ تفهمٍ وتدبُّر دون الموتى الذين هؤلاء منهم كقوله تعالى: {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى}
وقوله تعالى: {والموتى يَبْعَثُهُمُ الله} تمثيلٌ لاختصاصه تعالى بالقدرة على توفيقهم للإيمان باختصاصه تعالى بالقدرة على بعث الموتى من القبور، وقيل: بيانٌ لاستمرارهم على الكفر وعدمِ إقلاعهم عنه أصلاً على أن الموتى من القبور.
وقيل: بيان مستعارٌ للكفرة بناءً على تشبيه جهلهم بموتهم، أي وهؤلاء الكفرة يبعثهم الله تعالى من قبورهم {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} للجزاء، فحينئذ يستجيبون وأما قبل ذلك فلا سبيل إليه وقرئ {يَرْجِعون} على البناء للفاعل من رجَع رُجوعاً والمشهورُ أوفى بحق المقام لإنبائه عن كون مرجِعِهم إليه تعالى بطريق الاضطرار.


{وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} حكايةٌ لبعضٍ آخَرَ من أباطيلهم بعد حكايةِ ما قالوا في حق القرآن الكريم وبيانِ ما يتعلّق به والقائلون رؤساءُ قريشٍ وقيل: الحارثُ بنُ عامر بنِ نَوْفلَ وأصحابُه، ولقد بلغت بهم الضلالةُ والطغيان إلى حيث لم يقتنعوا بما شاهدوه من البينات التي تخِرُّ لها صمُّ الجبال حتى اجترأوا على ادِّعاء أنها ليست من قبيل الآياتِ وإنما هي ما اقترحوه من الخوارقِ الملجئةِ أو المُعْقِبة للعذاب كما قالوا: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} الآية، والتنزيل بمعنى الإنزال كما ينبىء عنه القراءة بالتخفيف فيما سيأتي، وما يفيده التعرّض لعنوان ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من الإشعار بالعلّية إنما هو بطريق التعريض بالتهكّم من جهتهم، وإطلاق الآية في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزّلٍ ءايَةً} مع أن المرادَ بها ما هو من الخوارق المذكورةِ لا آيةٌ ما من الآيات، لفساد المعنى مجاراةً معهم على زعمهم، ويجوز أن يرادَ بها آيةٌ مُوجبةٌ لهلاكهم كإنزال ملائكةِ العذاب ونحوه على أن تنوينها للتفخيم والتهويل كما أن إظهارَ الاسمِ الجليل لتربية المهابةِ مع ما فيه من الإشعار بعِلّة القُدرة الباهرةِ، والاقتصار في الجواب على بيان قدرته تعالى على تنزيلِها مع أنها ليست في حيز الإنكار للإيذان بأن عدمَ تنزيله إياها مع قدرته عليه لحكمةٍ بالغة يجب معرفتها وهم عنها غافلون، كما ينبىء عنه الاستدراكُ بقوله تعالى: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي ليسوا من أهل العلم على أن المفعول مطروحٌ بالكلية، أو لا يعلمون شيئاً على أنه محذوفٌ مدلولٌ عليه بقرينةِ المقام. والمعنى أنه تعالى قادر على أن ينزل آيةً من ذلك أو آيةً أيَّ آية ولكن أكثرهم لا يعلمون فلا يدرون أن عدمَ تنزيلِها مع ظهور قدرتِه عليه لما أن في تنزيلها قلْعاً لأساسِ التكليف المبنيِّ على قاعدة الاختيار، أو استئصالاً لهم بالكلية فيقترحونها جهلاً ويتخذون عدم تنزيلها ذريعةً إلى التكذيب، وتخصيصُ عدم العلم بأكثرهم لما أن بعضَهم واقفون على حقيقة الحال وإنما يفعلون مكابرةً وعناداً.


وقوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الارض} الخ، كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لبيان كمال قدرتِه عز وجل وشمول علمه وسعةِ تدبيرِه ليكون كالدليل على أنه تعالى قادرٌ على تنزيل الآية، وإنما لا يُنزِّلُها محافظةً على الحِكَم البالغةِ، وزيادةُ {من} لتأكيد الاستغراق وهي متعلقةٌ بمحذوفٍ هو وصفٌ لدابة مفيد لزيادة التعميم، كأنه قيل: وما فردٌ من أفراد الدوابِّ يستقرّ في قُطر من أقطار الأرض وكذا زيادةُ الوصف في قوله تعالى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} مع ما فيه من زيادة التقرير أي ولا طائرٍ من الطيور يطير في ناحية من نواحي الجو بجناحيه كما هو المشاهَدُ المعتاد، وقرئ {ولا طائرٌ} بالرفع عطفاً على محل الجار والمجرور كأنه قيل: وما دابة ولا طائر {إِلاَّ أُمَمٌ} أي طوائفُ متخالفةٌ، والجمع باعتبار المعنى كأنه قيل: وما مِنْ دوابَّ ولا طيرٍ إلا أممِ {أمثالكم} أي كلُّ أمة منها مثلُكم في أن أحوالها محفوظةٌ وأمورَها مقنَّنة ومصالحَها مرعيةٌ جاريةٌ على سَنن السَّداد، ومنتظمةٌ في سلك التقديرات الإلهية والتدبيراتِ الربانية {مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء} يقال: فرَّط في الشيء أي ضيَّعه وتركه، قال ساعدة بن حُوَية:
معه سِقاءٌ لا يُفرِّط حملَه ***
أي لا يتركه ولا يفارقه ويقال: فرّط في الشيء أي أهمل ما ينبغي أن يكون فيه وأغفله فقوله تعالى: {فِى الكتاب} أي في القرآن على الأول ظرفُ لغوٍ، وقوله تعالى: {مِن شَىْء} مفعولٌ لفرّطنا و{من} مزيدة للاستغراق أي ما تركنا في القرآن شيئاً من الأشياء المُهمّة التي من جملتها بيانُ أنه تعالى مراعٍ لمصالحِ جميعِ مخلوقاته على ما ينبغي، وعلى الثاني مفعول للفعل ومن شيء في موضع المصدر، أي ما جعلنا الكتاب مفرَّطاً فيه شيئاً من التفريط بل ذكرنا فيه كلَّ ما لا بد من ذكره. وأياً ما كان فالجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبلها، وقيل: الكتابُ اللوْح، فالمراد بالاعتراضِ الإشارة إلى أن أحوالَ الأمم مستقصاةٌ في اللوح المحفوظ غيرُ مقصورة على هذا القدر المُجمل، وقرئ {فَرَطنا} بالتخفيف.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} بيانٌ لأحوال الأمم المذكورة في الآخرة بعد بيان أحوالها في الدنيا. وإيرادُ ضميرها على صيغة جمع العقلاء لإجرائها مُجراهم، والتعبير عنها بالأمم أي إلى مالك أمورهم يحشرون يوم القيامة كدأبكم لاإلى غيره فيجازيهم فيُنصِفُ بعضَهم من بعض حتى يبلُغ من عدله أن يأخذ للجّماءِ من القَرْناء. وقيل: حشرُها موتها. ويأباه مقامُ تهويلِ الخطب وتفظيعِ الحال.
وقوله تعالى: {والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا} متعلق بقوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء} والموصول عبارةٌ عن المعهودِين في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} الآيات ومحلُه الرفعُ على الابتداء خبرُه ما بعده أي أوردنا في القرآن جميعَ الأمور المهمة وأزَحْنا به العِللَ والأعذارَ والذين كذبوا بآياتنا التي هي منه {صُمٌّ} لا يسمعونها سمعَ تدبرٍ وفهمٍ فلذلك يسمّونها أساطيرَ الأولين ولا يعدّونها من الآيات ويقترحون غيرها {وَبُكْمٌ} لا يقدِرون على أن ينطِقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون دعوتك بها وقوله تعالى: {فِى الظلمات} إما متعلقٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من المستكنِّ في الخبر كأنه قيل: ضالون كائنين في الظلمات أو صفةً لبكْم أي بُكم كائنون في الظلمات، والمراد به بيانُ كمالِ عراقتهم في الجهل وسوء الحال فإن الأصمَّ الأبكمَ إذا كان بصيراً ربما يَفهم شيئاً بإشارةِ غيرِه وإن لم يفهَمْه بعبارته، وكذا يُشعِرُ غيرَه بما في ضميره بالإشارة وإن كان معزولاً عن العبارة، وأما إذا كان مع ذلك أعمى أو كان في الظلمات فينسدّ عليه بابُ الفهم والتفهيم بالكلية، وقوله تعالى: {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ} تحقيقٌ للحق وتقريرٌ لما سبقَ من حالهم ببيانِ أنهم من أهل الطبْعِ لا يتأتَّى منهم الإيمانُ أصلاً، فمَنْ مبتدأ خبرُه ما بعده ومفعولُ المشيئة محذوفٌ على القاعدة المستمرَّة من وقوعها شرطاً وكونِ مفعولها مضمونَ الجزاء وانتفاءِ الغرابة في تعلقها به أي من يشأ الله إضلالَه أي أن يخلُق فيه الضلالَ يضلِلْه أي يخلُقه فيه ولكن لا ابتداءً بطريق الجبر من غير أن يكون له دخلٌ ما في ذلك بل عند صَرْفِ اختياره إلى كَسْبه وتحصيلِه وقِسْ عليه قوله تعالى: {وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ} لا يضِلُّ من ذهب إليه ولا يزِلُّ من ثبَت قدمُه عليه.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11